كلمات في حاجة إلى تثوير-عبد الكريم برشيد
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

كلمات في حاجة إلى تثوير

  عبد الكريم برشيد    

وفي مقابل هذه الأنانية، أو تلك النرجيسية التي تحدثنا عنها في الورقة الماضية، نجد كلمة أخرى هي (التواضع) وهي تستعمل ـ عادة ـ في معرض المدح الذي قد يعني شيئا آخر، يقول فيكتور هيجو (التواضع يفضض الذهب) أي أنه يحوله إلى فضة، وهو بهذا  يقوم بعملية تزوير معكوسة، ويبقى أن نشير إلى أن هذا التحويل شكلي ولفظي ومظهري فقط، وذلك لأن الذهب ـ ولو فضضناه ، أو رصصناه ، أو مرغناه في الوحل، فإن جوهره سيبقى ذهبا خالصا.
أما بالنسبة إلي ـ شخصيا ـ فإنني أرى أن النرجيسية والتواضع هما في الأصل طريقان متوازيان يؤديان ـ معا ـ إلى نفس النتيجة وإلى نفس الهدف، كيف ذلك ؟
أقول لكم كيف، فبالتواضع يمكن أن تجعلوا الناس الآخرين يقولون عنكم نفس ما يقوله المغرور و الأناني والنرجيسي عن نفسه، وفي الحالين معا، يكون الدافع واحدا، وتكون النتيجة واحدة .
حقا، إن المتواضع لا يتكلم، ولا يلمع نفسه، ولكنه يحرض الآخرين على الكلام بدلا عنه، كما أنه يغريهم ويغويهم بمدحه والتغزل في حسنه، وتلميع صورته التي قد لا تكون لامعة.
ونعود إلى ذلك الشاعر الصيني الذي أهمل حده البراني، و اهتم بعمقه الجواني فقط، نعود لنقول ـ تعقيبا على تلك الصورة ـ الكلمة التالية :
إن أكثر الذين يهملون أنفسهم هم الذين يهتمون بها، وكل واحد من هؤلاء الناس ـ الذين تعرفون أو لا تعرفون ـ إلا وله طريقته الخاصة، وله أسلوبه المميز، وله فلسفته في التعامل مع جسده، والتعاطي مع نفسه، والتفاعل والتجاوب مع الآخرين ومع العالم، فهناك من يعتبر هذه الذات جسدا، ولا شيء سوى ذلك، وبذلك تكون وجهته نحو المرايا (الإمبراطورية)، القريبة والمحسوسة والملموسة، وهناك من المجانين أو من الشعراء أو من العشاق أو من المستكشفين الروحيين، من يحس ـ إحساسا صادقا وحارا ـ أن بداخله بحورا حقيقية، ومحيطات بلا ضفاف، وقارات عذراء ووحشية، وجزائر مجهولة و منسية، وأن في أغواره السحيقة والبعيدة فضاءات أخرى، واسعة وساحرة وغنية جدا؛ غنية بالألوان، ومبهرة بالأضواء والظلال وبالأشكال، وأن من يدخلها، أو يقترب منها مفقود، وأن من يخرج من شعابها، ومن يتحرر من دروبها، ومن ينجو من تيهها، فإنه لابد أن يولد ولادة ثانية أو ثالثة أو رابعة أو خامسة  أو سابعة أو ..
إن (نارسيس ) ـ كما يتمثل في الثقافة الإغريقية ـ اللاتينية ـ هو غير النرجس، وذلك كما يتجلى في الثقافة العربية الإسلامية، ولو كان هذا ال ( نارسيس) في وضع الحلاج مثلا، وفي منزلته ومرتبته، لتأمل مراياه الداخلية، عوض أن ينظر في مياه الغدير، ولو فعل ذلك لاكتشف الجمال المطلق، ولأدرك الحقيقة الكلية، ولقال مع الحلاج بيته الشعري المعروف :
أنا من أهوى و من أهوى أنـا
نحـن روحـان حـلـلـنـا بـدنـا
وكلمة نرجس ـ في مسرحية ( الدجال والقيامة ) والتي قدمها  المخرج التونسي عبد الغني بن طارة في إطار فعاليات فضاء تطاون للمسرح المتعدد ـ لها نفس هذا المعنى، فنرجس إذن شخصية من شخصيات ذلك الاحتفال المسرحي الذي كتب سنة 1984 بمدينة مراكش، وهي امرأة دائمة النظر والتحديق في حوض الماء، وهي تكشف لنا عن نفسها وعن (فلسفتها ) من خلال الحوار التالي :
( ــ و في الحوض يا نرجس، ماذا تتأملين؟
ــ إنني لا أرى وجهي، لأن عيوني تعشق ما خلف وجهي..
ــ و ماذا خلف هذا الوجه البريء ؟
ــ خلفه القدرة الحكيمة .. قدرة أوجدتني بحسني وبهائي وحكمتي وحيائي.. إنني أعشق في ذاتي من أوجد  ذاتي)
هذا المعنى إذن، هو معنى النرجس في الثقافة العربية الإسلامية، وهو بهذا يختلف اختلافا كليا وجذريا عن ذلك المعنى القدحي، والذي أصبح اليوم ـ في ظل النظام الثقافي العالمي الجديد ـ معنى عالميا وكونيا بالضرورة .
وفي كتاب ( كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار ) لابن غانم المقدسي، نجد النرجس ـ في إشارته ـ يعبر عن نفسه وحقيقته قائلا :
( لا أجلس بين جلاسي، ولا أرفع إلى النديم رأسي، ولا أمنع الطالب طيب أنفاسي، ولست لعهد من وصلني بناسي، ولا على من قطعني قاس، وكأسي بصفوه لي كاسي ، بني على قصب الزهر أساسي، وجعل من اللجين والعسجد لذاتي، أتلمح تقصيري، فأطرق إطراق الخجل، وأفكر في مصيري، فأحدق لهجوم الأجل، فإطراقي اعتراف بتقصيري، وإطلاقي نظر إلى ما فيه مصيري )
هذه إذن، كلمة واحدة في معجم كبي.. معجم يحتاج لأن يسترد وعيه المفقود، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال.. ثورة الكلمـات ..
وهذه الثورة المطلوبة، حاليا ومستقبليا، وباستعجال كبير جدا، لا يمكن أن يقوم بها إلا كاتب آخر؛ كاتب حقيقي، يكتب، ويفهم، ويعي، ويتجرأ، ويعيش بشكل آخر مختلف، ويقرأ الكتابة قراءة متحررة ومنفلتة، وأين هو هذا الكاتب؟ دلونا عليه، وأجركم على رب العالمين ..



 
  عبد الكريم برشيد (2011-04-22)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

كلمات في حاجة إلى تثوير-عبد الكريم برشيد

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia